INSIGHTS

قراءات في فلسفة قانون التحكيم ومدده

May 11, 2022

كتابة:
د. أحمد ديهوم ، مستشار
ياسمين الشاذلي، محام متدرب

ظهر التحكيم منذ قديم الأزل حتى أمكن القول إنه أسبق ظهوراً من القضاء، كما شهد تطوراً ملحوظاً منذ نشأته حتى الآن، فمن بزوغ إلى أفول أمام القضاء الوطني لسيطرة مبدأ السيادة الوطنية على الأوساط إلى العودة إلى التألق مرة أخرى والتوهج في مجال التجارة سواء على المستوى الداخلي أو الدولي.

وقد صاحب ظهور فكرة التحكيم ارتباطه بمبررات معينة، إلا أن هذه المبررات قد أصابها التطور بتطور المجتمع، فسنة المجتمعات التطور المستمر بما يصاحبها من أفكار. فالتحكيم تم اللجوء إليه بداية لتجنب مساوئ استخدام القوة، إذ لم تعرف المجتمعات البدائية قواعد قانونية محددة، بالإضافة لعدم وجود سلطة عليا تسيطر على الأمور لذا تم اللجوء إليه في محاولة لتقليل أضرار الاعتداء ورد الاعتداء “ظاهرة القوة تنشئ الحق وتحميه”.

إلا أنه بالرغم من ذلك تعد هذه المبررات تطورت بسيطرة شعور الخوف من الآلهة وغضبها، إذ لجأ الأفراد لرجال الدين لحل ما يثور بينهم وذلك بغية استطلاع رأى الآلهة في النزاع. فاللجوء للتحكيم لم يكن لتجنب مضار استخدام القوة بل خوفاً من غضب الآلهة وبطشها، لذا فلم يكن اللجوء إليه بإرادة الأفراد الحرة بقدر ما هو إجباري بسبب الخوف من القوة أو الآلهة، إلا أن ما تجب ملاحظته أن الإجبار في مجال عصر القوة ليس في التحكيم ذاته، بل هو مرتبط بظروف الأفراد وقوة قبيلتهم في مواجهة القبيلة الأخرى.

إلا أن فلسفة التحكيم المرتبطة بالخوف لم تدم طويلاً، إذ بنشأة الأسواق وتنشيط المبادلات التجارية وُجِدّت العديد من الأسباب التي تشير لأهمية التحكيم وهو ما قد يوضح الفلسفة في اللجوء إليه، وقد تمثلت هذه الأسباب في السرية، العدالة، والسرعة.

إذ أن التحكيم يُعد من أسرع الوسائل لحل المنازعات بالمقارنة بالقضاء العادي، إذ أن القضاة مثقلون بالعديد من القضايا التي تأخذ وقتاً طويلاً، نظراً لتقيدها بمواعيد الجلسات التي تُحَدد وفقاً لظروف العمل، وكم القضايا.

– أمَّا التحكيم، فإن الجلسات تُحَدد في أوقات مناسبة للأطراف، كما أن هيئة التحكيم ملزمة بحسم النزاع وذلك في خلال مدة محددة، حيث أن الأطراف هم من يتحكمون في الفترة الزمنية، وهذا ما أقره قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994، إذ نصت المادة (45) منه على أن هيئة التحكيم ملتزمة بإصدار الحكم خلال المدة التي اتفق عليها الطرفان، وقد تعرض القانون لفرض حالة عدم اتفاق الأطراف، وأقر بأنه في هذه الحالة من الضروري أن يتم إصدار الحكم خلال اثني عشر شهراً يمكن مدّه لستة أشهر أخرى، وهو ما يؤكد على السرعة التي يتصف بها التحكيم.

– ويترتب على السرعة توفير الجهد والطاقة، إذ يوفر للأطراف مجهوداتهم في متابعة النزاع أمام القضاء بدرجاته المختلفة.

– وإزاء فلسفة التحكيم العامة المتمثلة في السرعة جاءت قواعد قانون التحكيم المصري لتعكس ذلك إلى إلا أن الأمر لم يخلو من بعض النصوص التي تحتاج إلى إعادة نظر، ولعل هذا الأمر قد يستحق عناء البحث في ظل رغبة الدولة في تحديث قواعد قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994، حيث مر ما يزيد عن ربع قرن عن صدوره.

– ولعل اتجاه الدولة في النظر لتعديل قانون التحكيم المصري يجد ما يبرره، وذلك من خلال تطور النصوص التحكيمية في العديد من دول العالم المختلفة، وصدور قوانين تحكيم حديثة واكبت تطورات التحكيم الدولية.

– ورجوعاً لفلسفة التحكيم المتمثلة في السرعة نجد أن نصوص قانون التحكيم المصري الحالي قد عكستها في العديد من المواطن، كتحديد الفقرة الأولى من المادة التاسعة عشر من قانون التحكيم المدة التي ينبغي خلالها تقديم طلب رد المحكم كتابة إلى هيئة التحكيم والتي تتمثل في خمسة عشر يوماً من تاريخ علم طالب الرد بتشكيل هذه الهيئة أو بالظروف المبررة للرد، وعليه فإذا لم يتنحى المحكم المطلوب رده قامت الهيئة بالفصل في هذا الطلب.

– كما قامت الفقرة الثانية من ذات المادة بتحديد المدة التي ينبغي خلالها قيام طالب الرد بالطعن على الحكم وذلك في حالة رفض الطلب والتي تتمثل في ثلاثين يوماً من تاريخ إعلانه به أمام محكمة استئناف القاهرة، على أنه ينبغي الإشارة إلى أن الحكم في هذه الحالة يكون غير قابل للطعن بأي طريق من طرق الطعن.

– وقامت المادة السابعة عشر من قانون التحكيم بتحديد المدة التي إذا لم يتم خلالها تعيين المحكم إما من قِبل أطرافه وذلك خلال الثلاثين يوماً التالية لتسلمه طالباً بذلك من الطرف الآخر، أو عن طريق المحكمان وذلك خلال الثلاثين يوماً التالية لتاريخ تعيينهما، تولت محكمة استئناف القاهرة ذلك بناء على طلب أحد الطرفين.

– وبالرغم من هذا التحديد إلا أن هناك عدة أمور لم يتم تحديدها، وهذا ما يُثير الجدل حول مدى اتساقها مع فلسفة التحكيم، فنجد أن المادة 22 من قانون التحكيم لم تقم بتحديد المدة التي ينبغي خلالها التمسك بالدفوع المتعلقة بعدم اختصاص هيئة التحكيم بما في ذلك الدفوع المتعلقة بعدم وجود اتفاق التحكيم أو سقوطه أو بطلانه أو عدم شموله لموضوع النزاع، بل تركت أمر التمسك بهم في ميعاد لا يجاوز ميعاد تقديم دفاع المدعى عليه المشار إليه في الفقرة الثانية من المادة 30 من القانون.

– كما أنه وفيما يتعلق بالدفع المتعلق بعدم شمول اتفاق التحكيم لما يثيره الطرف الآخر من مسائل أثناء نظر النزاع فإنه يجب التمسك به فوراً وإلا سقط الحق فيه، ويُعاب على هذا النص عدم التحديد الدقيق للميعاد، وهذا ما يُخالف فلسفة التحكيم في التحديد الدقيق الذي يبغى منه السرعة في إنهاء إجراءات التحكيم، وذلك بخلاف القانون الإماراتي الجديد، إذ حدد الميعاد بالجلسة التالية.

– ونجد ذات الأمر من خلال المادة 27 التحكيم، حيث أنها لم توضح المدة التي تبدأ فيها إجراءات التحكيم بل تركت الأمر لليوم الذي يتسلم فيه المدعى عليه طلب التحكيم من المدعي ما لم يتفق الطرفان على موعد آخر، وعليه فإن هذه المدة ترتبط بمدة ميعاد التحكيم.

– وقد ارتبطت ميعاد بدأ الإجراءات بما تضمنته نص المادة 45 من قانون التحكيم التى قامت بتنظيم ميعاد التحكيم، حيث تركت المادة أمر إصدار الحكم المنهي للخصومة للميعاد الذي اتفق عليه الأطراف كقاعدة عامة، وأكملت أنه في حال عدم وجود اتفاق يجب أن يتم إصدار الحكم خلال اثني عشر شهراً من تاريخ بدء إجراءات التحكيم، على أنه في جميع الأحوال يجوز أن تقرر هيئة التحكيم مد الميعاد على ألا تزيد فترة المد عن ستة أشهر، ما لم يتفق الطرفان على مدة تزيد على ذلك.

– وعكست هذه المادة فلسفة التحكيم، وذلك من خلال تحديد مدة الانتهاء من التحكيم في وقت محدد يتسم بالسرعة، وتحقيقاً لذلك ثار التساؤل حول بدأ إجراءات التحكيم، وقد وُجِدّت عدة اتجاهات في تحديد بدء إجراءات التحكيم، فوجد اتجاه يذهب إلى أن بداية سريان ميعاد التحكيم منذ إخطار الطرف الأخر بتفعيل شرط التحكيم. وهذا ما انتهجه المشرع المصري، كما نص على ذلك قانون التحكيم القطري، إذ نص على أنه: ” “تبدأ إجراءات التحكيم من اليوم الذي يستلم فيه المدعى عليه طلب إحالة النزاع إلى التحكيم، ما لم يتفق الأطراف على خلاف ذلك.

– فيما ذهب اتجاه آخر إلى أن بداية سريان ميعاد التحكيم يبدأ مع الإخطار بالجلسة الإجرائية.

– فيما وجد اتجاه ثالث يقرر بدأ سريان ميعاد التحكيم مع قبول آخر محكم مهمة الفصل في النزاع، وهذا ما انتهجه المشرع الإماراتي في قانون التحكيم الجديد رقم 6 لسنة 2018 إذ نصت المادة 27 على أن ” تبدأ إجراءات التحكيم من اليوم التالي لاكتمال تشكيل هيئة التحكيم مالم يتفق الاطراف على خلاف ذلك”.

– وإزاء اختلاف الاتجاهات حول بدء سريان الإجراءات، فإننا نرى أن الأمثل هو تحديد بدء الإجراءات منذ اكتمال تشكيل هيئة التحكيم، إذ قد يواجه الأطراف صعوبات في التشكيل مما يستقطع من وقت التحكيم.

– كما نرى أن المادة 45 من قانون التحكيم قد خرجت عن فلسفة التحكيم بصورة مطلقة فيما يخص الميعاد الإضافي، وعلى الرغم من أن حكمها قد تضمن أنه في حالة عدم صدور الحكم خلال اثني عشر شهر جاز لأي من الطرفين أن يطلب من رئيس محكمة استئناف القاهرة أن يصدر أمراً بتحديد ميعاد إضافي، إلا أنها لم تقم بتحديده وخولت للمحكمة سلطة مطلقة في تحديده وهذا ما يُنافي المنطق والسرعة المبتغاة.

Share this news

Join our mailing list

Connect with us

© Copyright 2019 Al-Feshawy & El-Shazly