INSIGHTS
التعليق على حكم محكمة استئناف القاهرة في الاستئناف المقيد في جدول التحكيم برقم 40 لسنة 138 قضائية
October 1, 2023

أصدرت محكمة استئناف القاهرة الدائرة 3 تجاري حكماً في الطعن بالبطلان رقم 40 لسنة 138 قضائية على حكم التحكيم الصادر في الدعوى التحكيمية رقم 1340 لسنة 2019 وفقاً لقواعد مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي، وأثار هذا الحكم عدداً ليس بالهين من حالات البطلان التي شابت حكم التحكيم المشار إليه، وهو الأمر الذي قليلاً ما نراه بأن يتم إبطال حكم تحكيمي تأسيساً على أكثر من وجه للبطلان، وهذا ما يمكن توضيحه من خلال التعليق التالي، وتم بتاريخ 17/02/2017 توقيع اتفاق تحكيم بين طرفي النزاع ورد في صورة شرط تحكيم بالمادة رقم 11 من عقد التطوير العقاري المحرر بين ذات الطرفين تحت عنوان:” القانون والتحكيم”
ثم صدر حكم التحكيم المطعون عليه، وقد أوضحت المحكمة الاستئنافية أن الأسباب المقامة من الطاعنة قد صادفت صحيح القانون فيما يتعلق بحالات بطلان حكم التحكيم الواردة حصراً بقانون التحكيم المصري رقم 27/1994 خاصةً فيما يتعلق بالأسباب الأول والثاني والثالث والحادي عشر والثاني عشر المبداه من الطاعنة أمام المحكمة الاستئنافية بالمخالفة للفقرتين “أ” و”و” من المادة 53 من القانون المذكور والمادة 53/2 منه، وذلك عقب تداول عناصر الحكم – بمنهج تحليلي ووصفي – وذلك من حيث الوقائع والإجراءات والمشاكل القانونية والقواعد القانونية ومنطوق الحكم.
أولاً: الوقائع:
تخلص وقائع النزاع في أنه تم إبرام اتفاقية تطوير عقاري بتاريخ 17/02/2017 بين الطاعنة بصفتها – ولاية الخرطوم بجمهورية السودان – والشركة المطعون ضدها – شركة جراند للاستثمار القابضة المحدودة – لإقامة مشروع تطوير عقاري أطلق عليه “مدينة النور” بولاية الخرطوم، تبعه إبرام ملحق للعقد المشار إليه بين ذات الطرفين بتاريخ لاحق في 27/02/2008.
إلا أنه وبتاريخ 20/10/2009، أخطرت الشركة الطاعنة الشركة المطعون ضدها بإخلالها بتنفيذ عقد التطوير العقاري وملحقه وأحقية الطاعنة في إنهاء العقد تباعاً لذلك تطبيقاً لنص الفقرة 6 من المادة الثامنة للعقد المبين حال استمرت المطعون ضدها في تقاعسها عن تنفيذ العقد والانتهاء من المشروع محل التعاقد وفقاً للشروط المتفق عليها في الخصوص بين الطرفين، الأمر الذي ترتب عليه بعد ذلك قيام الطاعنة بإنهاء عقد التطوير العقاري محل الذكر وملحقه إعمالاً لحقها المنصوص عليه في هذا الصدد بالفقرة المشار إليها بالمادة المذكورة.
وبتاريخ 14/07/2013، قام السيد/ بشير ثنيان الرشيدي بصفته رئيس مجلس إدارة الشركة المطعون ضدها بمطالبة رئيس المجلس الأعلى للاستثمار بالسودان بسداد قيمة ما أنفقته الشركة المشار إليها من مصروفات ونفقات على المشروع. وهو ما ترتب عليه اتفاق الطرفين محل الذكر على أحقية الشركة المطعون ضدها في الحصول على مبلغ مقداره 4539608 دولار أمريكي باعتبار المبلغ يمثل كافة المصروفات والنفقات التي تكبدتها الأخيرة.
وتأسيساً على ما تقدم وبتاريخ لاحق في 08/12/2013، أبرم طرفا العلاقة بصفتهما الطاعنة والمطعون ضدها اتفاقية تنازل وتسوية عن عقد التطوير وملحقه، تنازلت بموجبها المطعون ضدها بصفتها عن كافة الحقوق والالتزامات والمصروفات والرسوم والدراسات الفنية والتخطيطية والاستثمارية الخاصة بالمشروع وأي مستندات ذات صلة بها، وذلك في مقابل التزام ولاية الخرطوم بصفتها أي الطاعنة بسداد مبلغ مقداره 4539608 دولار أمريكي.
وعقب نشوب خلافات بين المساهمين بالشركة المطعون ضدها وقيام بعضهم بتحريك دعوى قضائية قيدت برقم 250 لسنة 2014 أمام محكمة الخرطوم التجارية ضد السيد/ بشير ثنيان الرشيدي بطلب بطلان التصرفات التي قام بها المذكور بادعاء سبق عزله في 08/05/2013 وصدور حكم نهائي بات في الخصوص من محكمة استئناف الخرطوم، الدائرة التجارية، والتي قضت بإلغاء الحكم الصادر في هذا الصدد عن محكمة أول درجة ببطلان تنازل السيد بشير ثنيان الرشيدي لانعدام الصفة، خاطبت الشركة المطعون ضدها الطاعنة بصفتها بتاريخ 15/02/2018 طالبةً الاستمرار في تنفيذ المشروع بالشروط الملائمة للطرفين وإعادة النظر في إنهاء عقد التطوير وملحقه.
وبتاريخ 20/10/2019، تقدمت الشركة المطعون ضدها بالدعوى التحكيمية المقيدة برقم 1340 لسنة 2019 أمام مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي، طالبةً في هذا الصدد طلبات تم تعديلها على نحو تمثلت في بطلان اتفاقية التنازل والتسوية المؤرخة 08/12/2023 والمبرمة بينها والطاعنة والتي تنازل بموجبها السيد/ بشير صالح ثنيان الرشيدي وآخر عن الاتفاقية المذكورة وذلك في مقابل مبلغ مالي تلتزم الطاعنة بسداده للمطعون ضدها وقدره 4539608 دولار أمريكي وإلزام الطاعنة وهي المحتكم ضدها أثناء الإجراءات التحكيمية بصفتها بأن تؤدي للمطعون ضدها أي المحتكمة خلال الإجراءات التحكيمية تعويضاً عن إنهاء اتفاقية التطوير العقاري، عطفاً على إلزام الطاعنة بصفتها بأداء تعويضات للمطعون ضدها عن الأضرار المباشرة والأضرار التي لحقت بالشركة المطعون ضدها والتي قدرتها الأولى بمبلغ 1672267000 دولار أمريكي، وإلزام الطاعنة بصفتها بطبيعة الحال بالمصروفات وأتعاب التحكيم والمحاماة.
وبعد تداول الدعوى بالجلسات التحكيمية، أصدرت هيئة التحكيم حكمها المنهي للخصومة كلها بتاريخ 17/02/2021، حيث قضت فيه برفض كافة الدفوع الشكلية والموضوعية المبداه من الطاعنة بصفتها وفي الموضوع ببطلان اتفاقية التنازل والتسوية محل الذكر، عطفاً على إلزام الطاعنة بتعويض الشركة المطعون ضدها بصفتها عن الخسائر المباشرة وما فاتها من كسب بدفع مبلغ 1111684090 دولار أمريكي إلى الأخيرة.
ثانياً: الإجراءات:
تتلخص إجراءات الدعوى في أن الطاعنة وهي المحتكم ضدها في الإجراءات التحكيمية أقامت هذه الدعوى القضائية بصحيفة قدمت إلى قلم الكتاب وقيدت بتاريخ 01/08/2022، طلبت فيها القضاء ببطلان حكم التحكيم الصادر عن مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي في القضية التحكيمية رقم 1340 لسنة 2019 بتاريخ 17/02/2019، والذي لم يلق قبولها.
ثالثاً: المشاكل القانونية:
أرسلت الطاعنة إخطاراً للشركة المطعون ضدها بتاريخ 20/10/2009، تم إخطار الأخيرة بموجبه بإخلالها في تنفيذ المشروع وفقاً للعقد والملحق وبأحقية الطاعنة في إنهاء العقد وفقاً للفقرة السادسة من المادة 8 من عقد التطوير العقاري الذي يربط طرفي التداعي حال استمرار تقاعس المطعون ضدها عن تنفيذ التزاماتها العقدية، وهو ما تبعه قيام الطاعنة بإنهاء العقد المذكور وملحقه إعمالاً لحقها المنصوص عليه اتفاقاً بالمادة المشار إليها، الأمر الذي استتبعه قيام السيد/ بشير ثنيان الرشيدي بصفته رئيس مجلس إدارة الشركة المطعون ضدها بمطالبة رئيس المجلس الأعلى للاستثمار بالسودان بسداد قيمة ما أنفقته الشركة من مصروفات ونفقات على المشروع وهو ما كان محلاً لاتفاقية تنازل وتسوية أبرمت بين طرفي التداعي، بحيث تنازلت بموجبها المطعون ضدها بصفتها عن كافة الحقوق والالتزامات والمصروفات والرسوم والدراسات الفنية والتخطيطية والاستثمارية الخاصة بالمشروع وأي مستندات ذات صلة بها مقابل التزام الطاعنة بصفتها بسداد مبلغ وقدره 4539608 دولار أمريكي للمطعون ضدها، وهو ما كان بدوره كذلك محلاً لدعوى قضائية أمام محكمة الخرطوم التجارية في خصوص انعدام صفة المذكور في إبرام التصرفات ممثلاً في ذلك عن الشركة المطعون ضدها، ولمخاطبة الشركة المطعون ضدها للطاعنة بصفتها بطلب الاستمرار في تنفيذ المشروع بالشروط الملائمة للطرفين وإعادة النظر في إنهاء عقد التطوير وملحقه، بحيث كانت النتيجة الطبيعية لذلك احتدام النزاع بين طرفي التداعي، ما أدى إلى شروع الشركة المطعون ضدها في تحريك الدعوى التحكيمية رقم 1340 لسنة 2019 بمركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي ضد الطاعنة بطلب الحكم لها بالطلبات المذكورة بعاليه.
رابعاً: القواعد القانونية:
حيث اتجه الحكم بالاستناد إلى نص المادة 54/1 من قانون التحكيم المصري، حيث نصت المادة المشار إليها على أن:
ترفع دعوى بطلان حكم التحكيم خلال التسعين يوماً التالية لتاريخ إعلان حكم التحكيم للمحكوم عليه. ولا يحول دون قبول دعوى البطلان نزول مدعي البطلان عن حقه في رفعها قبل صدور حكم التحكيم.
–
كما استند إلى نص المادة 22/1 من ذات القانون والتي تنص على أن:
تفصل هيئة التحكيم في الدفوع المتعلقة بعدم اختصاصها بما في ذلك الدفوع المبنية على عدم وجود اتفاق تحكيم أو سقوطه أو بطلانه أو عدم شموله لموضوع النزاع.
كما استند إلى نص المادة 10 من ذات القانون والتي تنص على أن:
(١) اتفاق التحكيم هو اتفاق الطرفين على الالتجاء إلى التحكيم لتسوية كل أو بعض المنازعات التي نشأت أو يمكن أن تنشأ بينهما بمناسبة علاقة قانونية معينة عقدية كانت أو غير عقدية.
(٢) يجوز أن يكون اتفاق التحكيم سابقاً على قيام النزاع سواءً قام مستقلاً بذاته أو ورد في عقد معين بشأن كل أو بعض المنازعات التي قد تنشأ بين الطرفين، وفي هذه الحالة يجب أن يحدد موضوع النزاع في بيان الدعوى المشار إليه في الفقرة الأولى من المادة (٣٠) من هذا القانون، كما يجوز أن يتم اتفاق التحكيم بعد قيام النزاع ولو كانت قد أقيمت في شأنه دعوى أمام جهة قضائية، وفي هذه الحالة يجب أن يحدد الاتفاق المسائل التي يشملها التحكيم وإلا كان الاتفاق باطلاً.
(٣) ويعتبر اتفاقاً على التحكيم كل إحالة ترد في العقد إلى وثيقة تتضمن شرط تحكيم إذا كانت الإحالة واضحة في اعتبار هذا الشرط جزءاً من العقد.
كما استند إلى نص المادة 11 من ذات القانون والتي تنص على أن:
لا يجوز الاتفاق على التحكيم إلا للشخص الطبيعي أو الاعتباري الذى يملك التصرف في حقوقه، ولا يجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح.
كما استند إلى نص المادة 12 من ذات القانون والتي تنص على أن:
يجب أن يكون اتفاق التحكيم مكتوباً وإلا كان باطلاً. ويكون اتفاق التحكيم مكتوباً إذا تضمنه محرر وقعه الطرفان أو اذا تضمنه ما تبادله الطرفان من رسائل أو برقيات أو غيرها من وسائل الاتصال المكتوبة.
كما استند إلى نص المادة 30/1 من ذات القانون والتي تنص على أن:
يرسل المدعي خلال الميعاد المتفق عليه بين الطرفين أو الذي تعينه هيئة التحكيم إلى المدعى عليه وإلى كل واحد من المحكمين بياناً مكتوباً بدعواه يشتمل على اسمه وعنوانه واسم المدعى عليه وعنوانه وشرح لوقائع الدعوى وتحديد للمسائل محل النزاع وطلباته وكل أمر آخر يوجب اتفاق الطرفين ذكره في هذا البيان.
كما استند إلى نص المواد 53/أ و53/و 53/2 من ذات القانون والتي تنص على أن:
(١) لا تقبل دعوى بطلان حكم التحكيم إلا في الأحوال الآتية:
( أ ) إذا لم يوجد اتفاق تحكيم أو كان هذا الاتفاق باطلاً أو قابلاً للإبطال أو سقط بانتهاء مدته.
… (و) إذا فصل حكم التحكيم في مسائل لا يشملها اتفاق التحكيم أو جاوز حدود هذا الاتفاق. ومع ذلك إذا أمكن فصل أجزاء الحكم الخاصة بالمسائل الخاضعة للتحكيم عن أجزائه الخاصة بالمسائل غير الخاضعة له فلا يقع البطلان إلا على الأجزاء الأخيرة وحدها.
(٢) وتقضى المحكمة التي تنظر دعوى البطلان من تلقاء نفسها ببطلان حكم التحكيم إذا تضمن ما يخالف النظام العام في جمهورية مصر العربية.
كما استند إلى نص المادة 101 من قانون الإثبات والتي تنص على أن:
الأحكام التي حازت قوة الأمر المقضي تكون حجة فيما فصلت فيه من الحقوق، ولا يجوز قبول دليل ينقض هذه الحجية ولكن لا تكون لتلك الأحكام هذه الحجية إلا في نزاع قام بين الخصوم أنفسهم دون أن تتغير صفاتهم وتتعلق بذات الحق محلاً وسبباً وتقضي المحكمة بهذه الحجية من تلقاء نفسها.
خامساً: منطوق الحكم:
“حكمت المحكمة:
بقبول الدعوى شكلاً وفي الموضوع ببطلان حكم هيئة التحكيم رقم 1340 لسنة 2019 مركز تحكيم القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي الصادر بتاريخ 17/2/2019 وألزمت المدعى عليه بصفته بالمصروفات ومائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة”.
حيث اتجه الحكم بالاستناد إلى:
عدم وجود اتفاق تحكيم باتفاقية التنازل والتسوية المبرمة بين الشركة المطعون ضدها بصفتها في شخص ممثلها السيد/ بشير صالح ثنيان الرشيدي والطاعنة بصفتها، ذلك أن اتفاق التحكيم لم يرد إلا في عقد التطوير العقاري في صورة شرط تحكيم تم إبرامه بين طرفي التداعي، دون أن يمتد إلى اتفاقية التنازل والتسوية والتي لم تتضمن ثمة إحالة لاتفاق التحكيم الوارد بعقد التطوير العقاري.
أنه على الفرض الجدلي والذي لم تسلم به المحكمة الاستئنافية بتاتاً بامتداد اتفاق التحكيم الوارد في صورة شرط تحكيم بعقد التطوير العقاري إلى اتفاقية التنازل والتسوية محل الذكر، فإن هيئة التحكيم قد فصلت في مسائل لم يشملها اتفاق التحكيم، بل وجاوزت حدوده أيضاً، ذلك أن اتفاق التحكيم الوارد بعقد التطوير العقاري في صورة شرط تحكيم كان مقصوراً من حيث المحل على اتخاذ التحكيم طريقاً لفض أي نزاع ينشأ بين طرفي التداعي فيما يتعلق بتفسير أية مادة أو بند من مواد وبنود اتفاقية التطوير العقاري المبرمة بين طرفي التداعي أو فيما يتعلق بتنفيذها أو بأي من العقود المرتبطة بها أو التابعة لها، دون أن يشمل الشرط المنازعات المتعلقة بإنهاء عقد التطوير العقاري أو بطلانه أو فسخه، مما يبطل حكم التحكيم بالتبعية.
أن هيئة التحكيم قد فصلت في حكمها التحكيمي المنهي للخصومة كلها فيما لم تطلبه الشركة المطعون ضدها للفصل فيه بطريق التحكيم ببيان دعواها والذي يحدد نطاق الخصومة المعروضة على هيئة التحكيم وحدودها وأشخاصها والذي يمنح بدوره هيئة التحكيم ولاية الفصل في النزاع من الأساس، وهو الأمر الذي يبطل حكم التحكيم وفقاً لما ارتأته المحكمة الاستئنافية، حيث فصلت هيئة التحكيم في مسألتي التمثيل القانوني للشركة المطعون ضدها وصحة تفويض أعضاء الجمعية العمومية للشركة المطعون ضدها، واللتان لم تردان ببيان دعوى المطعون ضدها أمام الإجراءات التحكيمية ولم يشملهما النزاع التحكيمي.
أن حكم التحكيم قد خالف النظام العام لجمهورية مصر العربية، بإهداره وعدم اعتداده بحجية الحكم النهائي البات الصادر من محكمة الخرطوم التجارية الاستئنافية بإلغاء حكم محكمة أول درجة القاضي ببطلان بعض تصرفات بشير ثنيان الرشيدي وبينها عقد التنازل والتسوية، وهو الأمر الذي تقضي به محكمة البطلان من تلقاء نفسها.
سادساً: التعليق:
بادئ ذي بدئ، فإنه بمطالعة الحكم محل التعليق، نجده وعلى غرار الطعون بالبطلان التي ترفع عادةً أمام المحاكم المختصة في مصر قد جاء مورداً أسباباً مهولة تمس مسألة بطلان الحكم التحكيمي أبدتها الطاعنة أمام المحكمة الاستئنافية، بلغ عددها 16 سبب كامل لبطلان الحكم، ذلك أن الطاعن بالبطلان عادةً ما يورد أي سبب قد يمس من قريب أو بعيد مسألة البطلان، توخياً من عدم اقتناع المحكمة بمعظم الأسباب والأخذ ببعضها فقط لا غير دون البعض الآخر.
وهو الحال في الحكم الماثل محل التعليق، إلا أنه وبطبيعة الحال، فإن محكمة البطلان لم تقتنع إلا بأربعة أسباب فقط لا غير، وهي الأسباب التي أوردتها في أسباب حكمها، وصولاً إلى قضائها ببطلان الحكم التحكيمي الصادر في الدعوى رقم 1340 لسنة 2019 في خصوص الدعوى المقيدة بمركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي، دون أن تتطرق لأي من الأسباب الاثني عشر الأخرى التي أبدتها الطاعنة كأسباب لبطلان الحكم التحكيمي المشار إليه، ما مفاده رفض المحكمة لهذه الأسباب المبداه من الطاعنة أمام المحكمة.
كما أنه يلاحظ أنه قد ورد نوعاً من التشابه أو التكرار بالأسباب الستة عشر التي أبدتها الطاعنة أمام محكمة البطلان، أخصها التشابه بين السببين الحادي عشر والرابع عشر، ذلك أن هذين السببين قد تعلقا أولاً وأخيراً – وبحسب ما أوردته الطاعنة بأسبابها لبطلان الحكم – ببطلان الحكم لمخالفته النظام العام لجمهورية مصر العربية، مما كان، وبحسب ما نرى، من الأفضل دمجهما بسبب واحد. كما أنه تلاحظ لنا نوعاً من التشابه بين السببين الخامس والخامس عشر، ذلك أن مثل هذين السببين قد مسا بطريقة ما أو بأخرى مسألة بطلان الإجراءات على نحو أثر في سلامة الحكم، إذ أن السبب الخامس والمتمثل في عدم اختصاص مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي بالمنازعة قد بني على بطلان حدث في إجراءات التحكيم أثر في سلامة الحكم.
وقد عالج حكم محكمة الاستئناف محل التعليق هذا الأمر، بقيامه بضم الأسباب المتشابهة واعتبارها بمثابة سبب واحد، منتهياً إلى قضائه ببطلان الحكم التحكيمي تأسيساً على أربعة أسباب وردت ضمن أسباب الطاعنة في الأسباب الأول والثاني والحادي عشر والثاني عشر.
ويستقيم التعليق على الحكم الاستئنافي الماثل الصادر على النحو المشار إليه عن طريق البحث في مدى جدوى الأسباب الأربعة التي أخذت بها المحكمة كأسباب لبطلان الحكم، وذلك قبل التطرق إلى باقي الأسباب التي أبدتها الطاعنة ولم تأخذ بها المحكمة، وفي مدى صحة الحكم بعدم أخذه بأي منها، وذلك على النحو التالي بيانه.
في بحث مدى صحة الأسباب الأربعة لبطلان حكم التحكيم التي أخذت بها محكمة البطلان:
تمثلت الأسباب الأربعة التي أبطلت المحكمة الاستئنافية على أساسها الحكم التحكيمي وعلى النحو المبين تفصيلاً بعاليه في خلو عقد التنازل والتسوية من اتفاق على التحكيم وتجاوز هيئة التحكيم حدود هذا الاتفاق ومخالفة الحكم التحكيمي للنظام العام في مصر بإهداره حجية حكم قضائي صادر عن المحاكم السودانية المختصة وفصل هيئة التحكيم فيما لم تطلبه المحتكمة أي المطعون ضدها ببيان دعواها أثناء الإجراءات التحكيمية.
وبالنظر إلى هذه الأسباب، يتبين لنا أنها جاءت على سند صحيح من القانون، ونستعرض ذلك على النحو التالي بيانه.
حيث إن اتفاق التحكيم يعد دستوره، فهو الذي يمنح المحكمين سلطة قضائية باتفاق الأطراف، خروجاً عن طرق التقاضي العادية أمام محاكم الدولة وما تكفله من ضمانات، مما مفاده امتناع المحكمين عن الفصل في نزاع لا يوجد بشأنه اتفاق على التحكيم، ذلك أن حق التقاضي هو حق كفله الدستور المصري لأي مواطن، ما ترتب عليه القضاء بعدم دستورية التحكيم الإجباري من قبل المحكمة الدستورية العليا، واقتصار مفهوم التحكيم على ذلك المبني على مبدأ سلطان الإرادة، حيث تنص المادة 97 من الدستور المصري المعدل على أن:
(“التقاضي حق مصون ومكفول للكافة. وتلتزم الدولة بتقريب جهات التقاضي، وتعمل على سرعة الفصل في القضايا، ويحظر تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء، ولا يحاكم شخص إلا أمام قاضيه الطبيعي، والمحاكم الاستثنائية محظورة”).
وتطبيقاً لذلك، فقد صدر التشريع التحكيمي المصري رقم 27/1994 واضحاً وصريحاً في حظر اللجوء لغير جهة القضاء – كاللجوء للتحكيم – إلا باتفاق واضح على اللجوء إلى هذه الطريقة البديلة لفض المنازعات، وهو عين ما نصت عليه المادتين 4/1 و10/1 من قانون التحكيم المصري رقم 27/1994، حيث تنص الأولى على أن:
(“(١) ينصرف لفظ: “التحكيم” في حكم هذا القانون إلى التحكيم الذى يتفق عليه طرفا النزاع بإرادتهما الحرة سواء كانت الجهة التي تتولى إجراءات التحكيم، بمقتضى اتفاق الطرفين، منظمة أو مركزاً دائماً للتحكيم أو لم يكن كذلك”).
كما تنص المادة 10/1 من ذات القانون على أن:
(“(١) اتفاق التحكيم هو اتفاق الطرفين على الالتجاء إلى التحكيم لتسوية كل أو بعض المنازعات التي نشأت أو يمكن أن تنشأ بينهما بمناسبة علاقة قانونية معينة عقدية كانت أو غير عقدية”).
وهو عين ما استقر عليه الفقه المصري والعربي والعالمي كافة، حيث استقر الفقه القانوني في هذا الصدد على أن:
(“لا يعرض النزاع على محكمين إلا باتفاق ذوي الشأن اتفاقاً واضحاً على الفصل فيه بطريق التحكيم. ويعرف القانون المصري اتفاق التحكيم بأنه “اتفاق الطرفين على الالتجاء إلى التحكيم لتسوية كل أو بعض المنازعات التي نشأت أو يمكن أن تنشأ بينهما بمناسبة علاقة قانونية معينة عقدية كانت أو غير عقدية”. فتوافق إرادة الطرفين هو أساس التحكيم ومصدر سلطة المحكمين، سواء بالنسبة للإجراءات أو بالنسبة للقانون الواجب التطبيق.
وفي هذا تقول محكمة النقض المصرية “إن حكمة تشريع التحكيم تنحصر في أن طرفي الخصومة يريدان أن يمحص إرادتهما واتفاقهما تفويض أشخاص ليس لهم ولاية القضاء في أن يقضوا بينهما أو يحسموا النزاع بحكم …. فرضاء طرفي الخصومة ضروري إذ أن إرادة الخصوم هي أساس التحكيم”. “فاختصاص جهة التحكيم بنظر النزاع – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – وإن كان يرتكن أساساً إلى حكم القانون الذي أجاز استثناءً سلب اختصاص جهة القضاء إلا أنه ينبني مباشرةً في كل حالة على حدة على اتفاق الطرفين“. ولهذا فإن “اتفاق التحكيم هو الأساس القانوني للتحكيم ودستوره الذي يحدد نطاقه ومداه ويخرج النزاع موضوعه من اختصاص القضاء صاحب الولاية العامة للفصل في المنازعات، ومنه يستمد المحكمون سلطاتهم للفصل في النزاع””).
(فتحي والي، الوسيط في التحكيم الوطني والتجاري الدولي علماً وعملاً، الجزء الأول 2021، دار النهضة العربية للنشر والتوزيع، صفحة 121 و122).
ولما كان اتفاق التحكيم هو أساس المنازعة التحكيمية على النحو المشار إليه بعاليه، فإن المشرع المصري لم يغفل إيراد واقعة عدم وجود اتفاق التحكيم كأحد الأسباب الرئيسية المبطلة لحكم التحكيم، حيث نص في المادة 53/1/أ من قانون التحكيم المصري رقم 27/1994 على أن:
(“(١) لا تقبل دعوى بطلان حكم التحكيم إلا في الأحوال الآتية:
( أ ) إذا لم يوجد اتفاق تحكيم أو كان هذا الاتفاق باطلاً أو قابلاً للإبطال أو سقط بانتهاء مدته”).
وهو عين ما استقر عليه الفقه القانوني، حيث استقر في هذا الصدد على أن:
(“… وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا لم يوجد أي اتفاق على التحكيم، فإن ما يصدر خارج المحاكم بغير هذا الاتفاق لا يكون حكماً له المقومات الأساسية للأحكام بما يتيح لأي من الأطراف دفع الاحتجاج عليه به بمجرد إنكاره والتمسك بعدم وجوده دون حاجة إلى الادعاء بتزويره أو اللجوء إلى الدعوى المبتدأة لإهداره. وهو ما قضت به أيضاً محكمة التمييز الكويتية مقررةً أن ما يصدر من هيئة التحكيم خارج نطاق اتفاق التحكيم لا يكون حكماً له المقومات الأساسية للأحكام أمام المحاكم مما يكون معه لأي من الخصوم دفع الاحتجاج به عليه والتمسك بعدم وجوده دون حاجة إلى اللجوء إلى رفع دعوى مبتدأة بالبطلان لإهداره”).
(فتحي والي، الوسيط في التحكيم الوطني والتجاري الدولي علماً وعملاً، الجزء الثاني 2021، دار النهضة العربية للنشر والتوزيع، صفحة 603).
وبتطبيق ما سلف بيانه على حكمنا الماثل محل التعليق، يتبين لنا بحق الغياب التام لاتفاق التحكيم باتفاقية التنازل والتسوية المبرمة بين الطرفين الطاعنة والمطعون ضدها في شخص ممثلها بشير ثنيان الرشيدي، مما ينحسر معه اختصاص هيئة التحكيم بنظر مثل هذا النزاع على النحو المبين تفصيلاً بعاليه، وخاصةً وبالالتجاء إلى تفسير اتفاق التحكيم ذاته الوارد في صورة شرط تحكيم بعقد التطوير العقاري المبرم بين طرفي النزاع، الشامل على سبيل الحصر فض المنازعات المتعلقة بتفسير أية مادة أو بند من مواد وبنود هذه الاتفاقية أو متعلق بتنفيذها أو بأي من العقود المرتبطة بها أو التابعة لها، وهو ما يخرج بطبيعة الحال عن شموله للنزاعات المتعلقة بأي عقود أخرى غير مرتبطة أو تابعة لعقد التطوير العقاري كاتفاقية التنازل والتسوية المنفصلة تماماً عن عقد التطوير العقاري، ما مفاده تأكيدنا على عدم وجود اتفاق على التحكيم باتفاقية التنازل والتسوية محل الذكر، خصوصاً ولعدم وجود ثمة إحالة باتفاقية التنازل والتسوية محل الذكر إلى اتفاق التحكيم الوارد في صورة شرط تحكيم بعقد التطوير العقاري المبرم بين طرفي النزاع الطاعنة والمطعون ضدها، حيث استقر الفقه القانوني في هذا الشأن على أن:
(“تحديد المحل في شرط التحكيم:
إذا كان الاتفاق في صورة شرط تحكيم، فإنه لا يلزم أن يتضمن الشرط تحديد المسائل المتنازع عليها. وهذا بديهي إذ أن الشرط يتفق عليه قبل بدء أي نزاع. على أنه لأن الشرط هو اتفاق على التحكيم، فيجب – شأنه شأن كل اتفاق – أن يكون له محل. وهذا المحل يجب أن يكون معيناً. ولهذا يلزم لصحة شرط التحكيم تعيين المحل الذي يحتمل أن يدور حوله النزاع. فيعتبر باطلاً شرط التحكيم الذي يتفق فيه الطرفان على عرض أي نزاع ينشأ بينهما في المستقبل على محكمين دون تعيين المحل الذي يدور حوله النزاع.
ويمكن للأطراف الاتفاق في شرط التحكيم على عرض جميع المنازعات التي تنشأ بينهما متعلقة بعقد معين، وعندئذ لا يمتد نطاق التحكيم إلى أي عقد أو اتفاق آخر، ولو كان مرتبطاً به وبين نفس الطرفين …”).
(فتحي والي، الوسيط في التحكيم الوطني والتجاري الدولي علماً وعملاً، الجزء الأول 2021، دار النهضة العربية للنشر والتوزيع، صفحة 266 و267).
وتطبيقاً لما سلف بيانه، فإنه لا غبار على عدم شمول شرط التحكيم الوارد بعقد التطوير العقاري لاتفاقية التنازل والتسوية، ذلك أن محل الشرط لم ينصب إلا على عقد التطوير العقاري وما يرتبط به من عقود وكذا العقود التابعة له، ومن ثم، فإن المحكمة الاستئنافية قد فسرت بحق شرط التحكيم المبرم بين طرفي التداعي في إطار عدم انصراف نيتهما إلى شمول شرط التحكيم لأي عقد غير مرتبط أو تابع لعقد التطوير العقاري، مما خلصت معه المحكمة عدم شموله لاتفاقية التنازل والتسوية.
وعلى ذات النهج، فإن المحكمة الاستئنافية اضطرت إلى إعمال تفسير اتفاق التحكيم الوارد في عقد التطوير العقاري في صورة شرط تحكيم، وذلك في سبيل تحديد نطاق الشرط وما إذا كانت هيئة التحكيم قد تخطت حدوده وفصلت في مسائل لا يشملها، وهو ما ترتب عليه قضائها بأنه إذا كان هنالك مجالاً فرضياً جدلياً للقول بشمول اتفاق التحكيم لاتفاقية التنازل والتسوية، فإن هيئة التحكيم وعلى أي حال قد تخطت حدود الاتفاق بفصلها في مسألة فسخ أو بطلان أو إنهاء العقود، وهو ما لم يتضمنه بأي حال اتفاق التحكيم الذي اقتصر بصريح عباراته على تفسير أو تنفيذ أية مادة أو بند من مواد وبنود عقد التطوير العقاري أو فيما يتعلق بأي من العقود المرتبطة بها أو التابعة لها، مما يبطل الحكم التحكيمي الصادر في مسألة خارجة عن نطاق سلطة هيئة التحكيم، تطبيقاً لنص المادة 53/1/و من قانون التحكيم المصري رقم 27/1994 والتي تنص على أن:
(“(١) لا تقبل دعوى بطلان حكم التحكيم إلا في الأحوال الآتية:
(و) إذا فصل حكم التحكيم في مسائل لا يشملها اتفاق التحكيم أو جاوز حدود هذا الاتفاق. ومع ذلك إذا أمكن فصل أجزاء الحكم الخاصة بالمسائل الخاضعة للتحكيم عن أجزائه الخاصة بالمسائل غير الخاضعة له فلا يقع البطلان إلا على الأجزاء الأخيرة وحدها”).
وترتبط هذه المسألة وجوداً وعدماً في حقيقة الأمر بمنهجية تفسير اتفاق التحكيم المتبعة، سواءً تعلق ذلك بالتفسير التقليدي الضيق للاتفاق أو بالمنهجية الحديثة لتفسيره والرامية إلى تفسيره تفسيراً واسعاً بحيث يشتمل التفسير ليس فقط على معناه الظاهر بل أيضاً على معناه الباطن، أي ما أراد المتعاقدان تضمينه باتفاق التحكيم ضمناً، وهي الأمور التي تخضع أولاً وأخيراً لتقدير هيئة التحكيم كونها الجهة الوحيدة المنوط بها الفصل في مسألة اختصاصها عن طريق تحديدها ما إذا كانت مسائل بعينها طرحت أمامها تدخل في نطاق اختصاصها لشمولها باتفاق التحكيم من عدمه تطبيقاً لمبدأ الاختصاص بالاختصاص، وذلك بطبيعة الحال دون الإخلال بسلطة محكمة البطلان في بسط رقابتها على اختصاص الهيئة التحكيمية من عدمه شريطة تمسك الطاعن بالبطلان أمامها ببطلان الحكم لعدم اختصاص الهيئة التحكيمية بعد أن يكون قد أثبت تمسكه بمثل هذا الدفع أمام الهيئة التحكيمية، حتى لا يعتبر متنازلاً عن حقه في هذا الشأن.
إلا أننا وبالنظر إلى ما انتهى إليه الحكم الاستئنافي في هذا الشأن، نجده قد بنى اقتناعه ببطلان حكم التحكيم لعدم شمول اتفاق التحكيم للمنازعات المتعلقة بفسخ أو بطلان أو إنهاء العقود على أساس منهجية التفسير الضيق للاتفاق دون تلك الرامية إلى تفسير الاتفاق على التحكيم تفسيراً موسعاً على النحو المبين بعاليه، ذلك أنه قضى بعدم اختصاص الهيئة التحكيمية بنظر النزاعات المتعلقة بفسخ أو بطلان أو إنهاء العقود لمجرد عدم ورودها نصاً باتفاق التحكيم المبرم بين طرفيه الطاعنة والمطعون ضدها، مما مفاده وبحسب ما ارتأته محكمة البطلان عدم وقوعها في النطاق الموضوعي لاتفاق التحكيم، مما يبطل الحكم التحكيمي الصادر في مسائل لم يتفق بصددها الأطراف على عرضها على الهيئة التحكيمية.
ونرى في هذا السياق صحة ما انتهت إليه المحكمة الاستئنافية في هذا الأمر، ذلك أن التحكيم باعتباره قضاء اتفاقي بين أطرافه خروجاً عن طرق التقاضي العادية أمام محاكم الدولة، فإن المسائل التي تنظرها الهيئة التحكيمية يجب أن يتم النص عليها بوضوح في اتفاق التحكيم سواء ورد في صورة شرط تحكيم أو مشارطة تحكيم أو الاثنين معاً بأن ينصهر شرط التحكيم في مشارطته، وذلك بصرف النظر عن تعارض ذلك الاتجاه نوعاً ما مع الاتجاه الحديث الموسع لتفسير اتفاقات التحكيم على النحو الذي أقرته الأحكام القضائية والآراء الفقهية المختلفة، وخاصةً تلك الصادرة مؤخراً منتهجةً المنهجية الحديثة للتفسير سالفة الذكر.
حيث استقر الفقه القانوني في هذا الصدد على أن:
(“الاتجاه الحديث: العدول عن التفسير الضيق:
بدأ هذا الاتجاه بالقول بأن التفسير الضيق لاتفاق التحكيم لا يمنع الاعتداد بما تكون إرادة الطرفين قد اتجهت إلى إدخاله إلى إدخاله ضمناً في محل التحكيم. ذلك أن تحديد محل التحكيم قد يتم صراحةً أو ضمناً.
… وبأنه إذا ورد شرط التحكيم “في أي نزاع ينشأ عن تنفيذ أو تفسير العقد”، فإن النص على التحكيم بشأن تنفيذ العقد يتسع للنزاع حول انتهاء العقد ومدته وأثر ذلك في التزامات الطرفين. كما يشمل النزاع حول مسئولية أحد الطرفين الناشئة عن هذا العقد أو عن إلغائه. كما يمتد إلى فسخ العقد أو بطلانه أو التعويض عن الفسخ أو البطلان“).
(فتحي والي، الوسيط في التحكيم الوطني والتجاري الدولي علماً وعملاً، الجزء الأول 2021، دار النهضة العربية للنشر والتوزيع، صفحة 258 و259).
وتطبيقاً لما تقدم بيانه، فإن الاتجاه الحديث لتفسير اتفاقات التحكيم يقتضي حتماً القول بأن النص في اتفاق التحكيم على شموله للمسائل ذات الصلة بتنفيذ العقد سند التداعي وتفسيره يعني في حقيقته شموله أيضاً لما يتعلق بفسخ العقد وبطلانه وإنهائه، الأمر الذي يعد معه اتفاق التحكيم الوارد بعقد التطوير العقاري شاملاً لمسائل البطلان والفسخ والإنهاء بمجرد نصه الصريح على اللجوء للتحكيم بخصوص أي نزاع أو خلاف يتعلق بتفسير أية مادة أو بند من مواد وبنود العقد المذكور أو متعلق بتنفيذها، مما يكون معه الحكم الاستئنافي قد خالف المنهجية الحديثة لتفسير اتفاقات التحكيم، مقراً منهجية التفسير الضيق للاتفاق، وهو وإن قد يعتبره البعض محل نظر في الخصوص، إلا أننا نرى أن مثل هذه الإشكالية تخضع للتقدير المطلق لمحكمة البطلان وفق ما يتراءى لها من تفسير اتفاق التحكيم باعتباره عقداً كسائر العقود مما لا ينبغي معه وصفه بالقصور لمجرد عدم إعماله لمنهجية التفسير الحديث، خصوصاً ولكون المستقر عليه في القواعد العامة للقانون المدني المصري أنه لا يجوز الانحراف عن عبارة العقد بغية تفسيرها بحثاً عن الإرادة المشتركة للمتعاقدين إذا كانت عبارة العقد واضحة، وهو الحال في الحكم الاستئنافي محل التعليق، لوضوح عبارات اتفاق التحكيم في انصراف نية طرفيه للمنازعات المتعلقة بتفسير العقد أو تنفيذه، مما مفاده اقتصاره على نطاق هذا النوع من المنازعات دون غيرها.
وأياً ما كان الأمر، فإن قضاء المحكمة الاستئنافية سالف الذكر لن يغير من الأمر شيئاً في نهاية المطاف، لعدم وجود اتفاق تحكيم من الأساس – وعلى النحو الذي أقرته بحق المحكمة الاستئنافية – باتفاقية التنازل والتسوية والتي لم يمتد إليها اتفاق التحكيم الوارد في صورة شرط تحكيم بعقد التطوير العقاري لعدم وجود إحالة صريحة باتفاقية التنازل والتسوية لشرط التحكيم الوارد بعقد التطوير العقاري، مما يترتب عليه بطلان الحكم التحكيمي لهذا السبب وحده ودون الحاجة لبحث ما إذا كان اتفاق التحكيم يشمل مسائل البطلان أو الفسخ أو الإنهاء من عدمه، ذلك أن الهيئة التحكيمية بقضائها ببطلان اتفاقية التنازل والتسوية قد تخطت النطاق الموضوعي لاتفاق التحكيم غير الشامل لاتفاقية التنازل والتسوية من الأساس والمقتصر بالتبعية على عقد التطوير العقاري وما يتصل به من عقود فقط لا غير، مما يبطل الحكم التحكيمي الصادر عنها بصرف النظر عما عدا ذلك من أمور وإشكاليات أخرى على النحو المذكور تفصيلاً بعاليه.
وعلى ذات نهج جملة ما سبق إيضاحه، فإن المحكمة الاستئنافية لم تغفل التأكيد على مبدأ هام في حكمها مستمد في أساسه من إجراءات التقاضي العادية أمام محاكم الدولة، وهو عدم جواز قضاء القاضي بما لم يطلبه الخصوم في الدعوى القضائية، فقضت ببطلان الحكم التحكيمي محل دعوى البطلان المنظورة أمامها على سند من القول بقضاء الهيئة التحكيمية بما لم تطلبه المحتكمة – أي المطعون ضدها – في أثناء الإجراءات التحكيمية فيما تعلق بصفة الموقع على عقد التنازل والتسوية ممثلاً للمحتكمة وصولاً إلى قضائها بانعدام صفته وبطلان عقد التنازل والتسوية بالتبعية وكذا في خصوص مدى صحة تفويض أعضاء الجمعية العمومية للشركة المحتكمة، حيث خرجت هذه المسائل بحق عن الاختصاص الولائي للهيئة التحكيمية.
بعبارة أخرى، فإن الحكم الاستئنافي قد عرف النطاق الموضوعي للخصومة التحكيمية في إطار ما طلبه فعلياً الخصوم في الدعوى التحكيمية مما يندرج بدوره في نطاق المسائل المتفق على اللجوء للتحكيم بشأنها في اتفاق التحكيم ذاته سواءً ورد في صورة شرط تحكيم أو مشارطة تحكيم أو كليهما معاً، ومن ثم أوجب الحكم الاستئنافي ضرورة الاعتداد في هذا الصدد بطلبات المحتكم في الدعوى التحكيمية، ومن ثم تلتزم الهيئة التحكيمية بعدم الخروج عن هذه الطلبات والقضاء في غيرها مما لم يطلبه الخصوم، وذلك بصرف النظر عن كونها مشمولة في اتفاق التحكيم من عدمه، إذ أنها تكون بذلك قد تخطت النطاق الموضوعي للخصومة التحكيمية بتعريفه المبين، مما يبطل حكمها الصادر عنها، وهو الأمر الذي لا نجد فيه ثمة إشكالية ونرى إذن أن المحكمة الاستئنافية قد أصابت صحيح القانون بقضائها على النحو المذكور.
كما أن الحكم الاستئنافي قد أصاب صحيح القانون دون أدنى شك أو غبار على ذلك حينما قضى بمخالفة الحكم التحكيمي للنظام العام في جمهورية مصر العربية لتعرضه لبطلان بعض تصرفات الممثل القانوني للشركة المطعون ضدها، بشير ثنيان الرشيدي، ومن بينها عقد التنازل والتسوية، وذلك على الرغم من صدور حكم نهائي بات من محكمة الخرطوم التجارية بإلغاء حكم أول درجة الصادر ببطلان هذا العقد، ومن ثم جاء حكم التحكيم المقضي ببطلانه مخالفاً حجية حكم نهائي بات صادر في الخصوص من المحاكم السودانية، مما استجوب بطلانه من عدالة محكمة القاهرة الاستئنافية.
حيث استقرت أحكام محكمة استئناف القاهرة في هذا الصدد على أن:
(“من المقرر قانوناً أن مفهوم النظام العام باعتباره الأساس الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في الدولة هو ما يتعلق بالمصلحة العليا للمجتمع مما لا يكفي معه مجرد التعارض مع نص قانوني آمر …”).
(محكمة استئناف القاهرة، الدائرة (8) التجارية، الدعوتان رقما 48 و52 لسنة 126 قضائية، جلسة 24/04/2013).
وهو عين ما أقرته الآراء الفقهية المختلقة والتي استقرت في هذا الشأن على أن:
(” … أما الفرض الذي نواجهه، فهو صدور الحكم متضمناً لما يخالف النظام العام المصري، فالعبرة بالمفهوم المصري للنظام العام، وهي مسألة على جانب كبير من الأهمية، إذا استحضرنا ما سبق أن عالجناه بشأن فكرة النظام العام الدولي، وما انتهينا إليه من رفض لهذه الفكرة تأسيساً على الطابع الوطني لمفهوم النظام العام، فهذا المفهوم يعبر عن الأسس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يرتكز عليها كيان الدولة، وهي أسس لا تتطابق ولا تتقارب إلى الحد الذي يمكن معه القول بوجود مفهوم موحد للنظام العام الدولي.
والعبرة في هذا المقام ليست بتعلق الحكم بمسألة تمس النظام العام، وإنما يتضمن الحكم فعلاً ما يخالف النظام العام المصري وهي صياغة موفقة للنص …”).
(محمود مختار أحمد البريري، التحكيم التجاري الدولي، الطبعة الرابعة 2014، دار النهضة العربية، صفحة 232).
وعلى ما تقدم، فإنه يتضح جلياً أن فكرة النظام العام في مصر شأنها شأن أي دولة أخرى – وإن لم تشمل تعريفاً وتحديداً واضحاً للمسائل التي تتعلق بهذا المصطلح لكونه مصطلحاً غير منضبط -، إلا أنها تمس أولاً وأخيراً كل ما يتعلق بالنظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي لمجتمع ما، أو بعبارة أخرى، ما تهتز بشأنه أركان الدولة الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية. ومن ثم، فإن إهدار حكم تحكيم لحجية حكم نهائي بات صادر من القضاء المختص هو مما تهتز معه أركان الدولة، ذلك أن مثل هذا الأمر يفتح الباب لإعادة عرض النزاعات أمام جهة قضائية أو تحكيمية إذا لم يلق حكم نهائي ما قبول أي من الأطراف، وهو ما لا يستقيم بتاتاً، فيخالف الحكم التحكيمي حينئذ النظام العام لدولة مقر التحكيم، مما يترتب عليه القضاء ببطلانه.
على أنه يلاحظ في حالتنا الماثلة أن مقر التحكيم كان بجمهورية مصر العربية لاختصاص محكمة استئناف القاهرة بنظره وأن الحكم القضائي النهائي البات الذي صدر الحكم التحكيمي مهدراً حجيته قد صدر عن المحاكم السودانية، وبالتالي كان التعارض بين حكم تحكيم مصري وحكم قضائي أجنبي، إلا أننا نرى أن مثل هذا الأمر لا يحول دون تقرير مخالفة الحكم التحكيمي للنظام العام بدولة المقر، للأسباب المذكورة تفصيلاً بعاليه، وحتى لا يكون ذلك باباً للاتفاق على مقر آخر للتحكيم غير مقر صدور الحكم القضائي النهائي البات لإهدار حجية هذا الحكم القضائي بحكم تحكيم صادر في دولة أخرى بخلاف دولة مقر الحكم القضائي، وهو ما لا يجب أن نسلم به بأي حال من الأحوال.
وخلاصة ما تقدم، هو أننا نؤيد ما انتهت إليه المحكمة الاستئنافية في الأسباب الأربعة التي أخذت بها وصولاً إلى قضائها ببطلان الحكم التحكيمي، ولو ابتعدت في المنهجية المتخذة من قبلها عن الاتجاه الحديث لتفسير اتفاقات التحكيم، ذلك أنها حرصت على ضرورة التأكيد على عدم التوسع في تفسير اتفاق التحكيم، حتى لا يؤدي ذلك إلى توسيع سلطات هيئة التحكيم على حساب قضاء الدولة المختص أصلاً بنظر النزاعات كافة وعلى حساب المبدأ الدستوري الجوهري القاضي بأحقية أي مواطن في الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي.
في بحث مدى صحة التفات المحكمة الاستئنافية عن باقي الأسباب الاثني عشر المبداه من قبل الطاعنة ببطلان الحكم التحكيمي:
حيث بنت المحكمة الاستئنافية حكمها القاضي ببطلان حكم التحكيم الصادر عن مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي في الدعوى المقيدة بالمركز المذكور برقم 1340 لسنة 2019 على الأسباب الأربعة السابق الإشارة إليها بعاليه دون غيرها من الأسباب، والتي لم تلتفت إليها مطلقاً، وهو ما كنا نحبذ أن ينص الحكم الاستئنافي على عدم صحة باقي مناعي الطاعنة كافة أو أن تقضي المحكمة بالبطلان تأسيساً على الأسباب الأربعة مع نصها في حكمها على البطلان دون حاجة إلى بحث مدى صحة باقي الأسباب المبداه من الطاعنة، إلا أنها لم تفعل ذلك مكتفيةً بتجاهل باقي الأسباب المبداه من الطاعنة، ويستقيم التحليل الكامل للحكم الصادر عن عدالة محكمة استئناف القاهرة بحث مدى جدوى هذا الالتفات عن باقي أسباب الطاعنة الاثني عشر، وذلك على النحو التالي بيانه.
فبالنسبة لأول هذه الأسباب التي التفتت عنها المحكمة الاستئنافية والمتعلقة بعدم اختصاص الهيئة التحكيمية بنظر طلب بطلان عقد التنازل والتسوية لقضائها بانعدام صفة الموقع على العقد وهو ما يخالف مبدأ استقلالية شرط التحكيم، فهو نعي جدير بالرفض من المحكمة كونه يحتوي في ذاته على تناقض، ذلك أن استقلالية شرط التحكيم تعني أنه يظل قائماً منتجاً لآثاره القانونية بصورة طبيعية ولو قضي ببطلان العقد ذاته الذي يحتوي على شرط التحكيم، ومن ثم فإنه على فرض صحة امتداد اتفاق التحكيم الوارد بعقد التطوير العقاري إلى اتفاقية التنازل والتسوية – وهو ما لا نسلم به بتاتاً على غرار ما قضت به المحكمة الاستئنافية -، فإن الوصول إلى نتيجة مفادها بطلان عقد التنازل والتسوية لانتفاء صفة الموقع عليه من قبل الشركة المطعون ضدها لا يترتب عليه بذاته بطلان شرط التحكيم بالتبعية، ذلك أنه يبقى قائماً مستقلاً عن العقد الأصلي الذي توصلت الهيئة التحكيمية إلى بطلانه، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، فإنه لا محل لبحث هذا السبب من الأساس كونه ورد بالنعيين الأول والثاني للطاعنة بصحيفة الطعن بالبطلان المقدمة من قبلها لعدالة المحكمة الاستئنافية، وقد انتهت المحكمة الاستئنافية بالفعل إلى عدم اختصاص الهيئة التحكيمية بنظر المنازعات الناشئة بخصوص بطلان اتفاقية التنازل والتسوية لخلو الأخيرة من اتفاق على التحكيم وعدم وجود ثمة إحالة صريحة لاتفاق التحكيم الوارد بعقد التطوير العقاري، علاوة على تجاوز هيئة التحكيم نطاق شرط التحكيم بقضائها بالبطلان وهي المسألة غير الواردة بهذا الشرط من أساسه على النحو المبين تفصيلاً بعاليه، ومن ثم فإن المحكمة الاستئنافية قد تراءى لها بحق بأنه ليس هنالك أي داعي للتطرق لمثل هذه المسألة مجدداً ولو تم إبدائها تأسيساً على نعي مختلف، وهو ما نؤيد معه الحكم الاستئنافي في هذا الشأن.
أما بخصوص ثاني أسباب الطاعنة المبداه من قبلها أمام عدالة المحكمة الاستئنافية والمتعلقة بمخالفة حكم التحكيم لاتفاق الطرفين بضرورة اللجوء إلى التسوية الودية السابقة على نفاذ شرط التحكيم، فإن التفات المحكمة الاستئنافية عن هذا الدفع نراه سليماً، ذلك أن الفقه القانوني قد استقر بحق على أن عدم إيراد مدة معينة للتسوية الودية بحيث يتم اللجوء للتحكيم حال فشلها في غضون المدة المحددة معناه فشل التسوية الودية بمجرد قيام طرف من الأطراف بتحريك الدعوى التحكيمية، حيث استقر الفقه القانوني في هذا السياق على أن:
(“على أنه يلاحظ أن التسوية الودية تتم عادةً بالاتصال المباشر بين الطرفين دون تدخل شخص من الغير، كما تتم بغير إجراءات محددة يتفق عليها الطرفان لمفاوضات التسوية الودية. ولهذا من الصعب إثبات أن الطرفين قد حاولا هذه التسوية أو لم يحاولاها قبل الالتجاء إلى التحكيم. ولهذا حكم بأنه ما دام شرط التحكيم لم ينص على أي إجراءات لمفاوضات التسوية الودية، فإن مجرد الالتجاء المباشر إلى التحكيم يعد في ذاته دليلاً على فشل هذه التسوية، وتكون الدعوى التحكيمية مقبولة“).
(فتحي والي، الوسيط في التحكيم الوطني والتجاري الدولي علماً وعملاً، الجزء الثاني 2021، دار النهضة العربية للنشر والتوزيع، صفحة 610 و611).
وحيث إن البين بمطالعة اتفاق التحكيم سند التداعي والوارد بالحكم الاستئنافي أن طرفي التداعي لم يحددا ثمة إجراءات محددة للتسوية الودية المتفق عليها، ومن ثم عد مجرد التجاء المحتكمة – أي المطعون ضدها – للتحكيم دليلاً كافياً على فشل التسوية الودية، مما يترتب عليه أن الدعوى التحكيمية تكون مقبولة، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، فإنه بالنظر إلى طلبات المحتكم ضدها في الإجراءات التحكيمية، وهي الطاعنة أمام المحكمة الاستئنافية، فإنها قد خلت من التمسك بالدفع بعدم قبول الدعوى لرفعها قبل الأوان لوجود شرط تسوية ودية سابق على اللجوء للتحكيم، وهو ما يفيد سقوط حق الطاعنة في إبداء مثل هذا الدفع لأول مرة أمام المحكمة الاستئنافية، حيث تنص المادة 32 من قواعد مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي المنطبقة على الإجراءات التحكيمية على أن:
(“النزول عن حق الاعتراض
إذا لم يبادر أي طرف بالاعتراض على أي مخالفة لهذه القواعد أو لأي شرط في اتفاق التحكيم، يعتبر ذلك نزولاً منه عن حقه في الاعتراض، وذلك ما لم يقدم هذا الطرف ما يثبت أن عدم قيامه بالاعتراض كان له ما يبرره في ظل الظروف القائمة”).
وبتطبيق ما تقدم على الحكم محل التعليق، نجده أصاب صحيح القانون بالتفاته عن مثل هذا الدفع لفساد أساسه ومن أكثر من جانب على النحو المتقدم.
وبخصوص ثالث أسباب الطاعنة المبداه من قبلها أمام المحكمة الاستئنافية المتمثلة في عدم اختصاص مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي بنظر المنازعة وفقاً لقواعده على سند من القول بأن إرادة طرفي النزاع قد اتجهت إلى إخضاع سائر الإجراءات التحكيمية لنظام التحكيم المتبع لدى مركز التحكيم الدولي بالقاهرة لا مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي، فإن الحكم الاستئنافي قد التفت بحق عن مثل هذا النعي تأسيساً على ما سبق بيانه بعاليه من أنه على فرض صحة مثل هذا النعي، فإن المحتكم ضدها – أي الطاعنة أمام عدالة المحكمة الاستئنافية – قد ثبت تنازلها عن التمسك بمثل هذا الدفع أمام المحكمة الاستئنافية بعدم إبدائها إياه أثناء الإجراءات التحكيمية مما انسحب إلى القول برضائها الضمني باختصاص مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي، مما يستتبع بدوره القول بصحة اختصاص مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي بما نشأ من نزاعات بين طرفي التداعي.
أما بخصوص رابع مناعي البطلان المبداه من الطاعنة أمام عدالة المحكمة الاستئنافية، فإنها جديرة أيضاً بالالتفات عنها من عدالة المحكمة الاستئنافية، ذلك أنه لم يثبت – بمطالعة الحكم الاستئنافي محل التعليق – بأي حال كان استبعاد الهيئة التحكيمية للقانون السوداني أو مسخه، ذلك أن طرفي التداعي قد اتفقا على إعمال أحكام القانون السوداني على موضوع النزاع ذاته، فلا يعد منطبقاً من الأساس على اتفاق التحكيم أو في تحديد ما إذا كان قد أبرم صحيحاً أو في اختصاص الهيئة التحكيمية، حيث يخضع اتفاق التحكيم لقانون دولة مقر التحكيم أي القانون المصري بغياب اتفاق الأطراف على تحديد القانون الواجب التطبيق على اتفاق التحكيم، بينما يتم الفصل في مسألة اختصاص الهيئة بنظر النزاع وفقاً للقواعد الإجرائية المتفق عليها وهي قواعد مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي جنباً إلى جنب مع قواعد قانون التحكيم المصري باعتباره قانون دولة المقر، مما ينهار معه هذا النعي لفساد أساسه، حيث استقر الفقه القانوني في هذا الصدد على أن:
(“الفرض الثاني: عدم اتفاق الطرفين:
إذا لم يتفق الأطراف على خضوع التحكيم لقانون معين، فيخضع لقانون الدولة التي يصدر فيها حكم التحكيم. ويطبق قانون مكان صدور الحكم بصرف النظر عما تقضي به قاعدة الإسناد الوطنية التي تحكم العقود أو عن القانون الذي اتفق الأطراف على تطبيقه على موضوع النزاع“).
(فتحي والي، الوسيط في التحكيم الوطني والتجاري الدولي علماً وعملاً، الجزء الأول 2021، دار النهضة العربية للنشر والتوزيع، صفحة 174).
وعليه، فإنه يتضح جلياً أن القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع محل التحكيم يعد غير منطبق على الإطلاق في خصوص بحث مدى صحة إبرام اتفاق التحكيم، فيخضع حال عدم اتفاق أطرافه على قانون معين إلى قانون دولة المقر، أي قانون الدولة التي يصدر فيها حكم التحكيم، ومن ثم فإن القول بعدم انطباق القانون المصري على مسألة بحث شروط صحة اتفاق التحكيم هو مما يوصم مثل هذا النعي بالفساد، مما يترتب عليه صحة ما انتهت إليه المحكمة الاستئنافية من التفاتها لهذا النعي.
كما أن بحث مسألة اختصاص الهيئة التحكيمية يخضع للقانون الواجب التطبيق على الإجراءات، أي قواعد مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي جنباً إلى جنب مع قانون دولة المقر، ومن ثم يضحى مثل هذا النعي في شقه الآخر محل الذكر فاسداً دون أدنى شك في ذلك.
أما عن باقي أسانيد مثل هذا النعي، فلم تخطئ المحكمة الاستئنافية في الالتفات عنها كذلك، ذلك أنها برمتها تتعلق بالخطأ العادي في تطليق القانون الذي يخرج من حالات البطلان المنصوص عليها حصراً بالمادة 53 من القانون الإجرائي لدولة المقر، أي قانون التحكيم المصري، ومن ثم عد ذلك سبباً أدعى لرفض باقي أسانيد هذا النعي لفساد أساسها على النحو الذي انتهت إليه بحق عدالة المحكمة الاستئنافية.
وبخصوص خامس مناعي الطاعنة التي التفتت عنها المحكمة الاستئنافية، فإن المحكمة باطلاعها على الحكم التحكيمي المقضي ببطلانه – والذي ليس بحوزتنا – تراءى لها عدم وجود أي داعي لاعتبار الحكم التحكيمي باطلاً لأي من الأسباب التي تتعلق بالقصور في التسبيب أو عدم كفايته أو ما إلى ذلك، ونرى بمجرد الاطلاع على هذا النعي وفق سرد الحكم الاستئنافي له أنه ظاهرياً لا يوجد تناقض فج أو قصور واضح جلي للتسبيب بحيث يترتب عليه بطلان الحكم التحكيمي لعيب في الحكم ذاته، وهو ما نؤيد معه اتجاه المحكمة الاستئنافية بالالتفات عنه ظاهرياً، لكون الحكم التحكيمي المقضي ببطلانه ليس بحوزتنا، وذلك فيما عدا مسألة انعدام التسبيب، حيث أوردها الحكم الاستئنافي دون أي إيضاح لمثل هذه المناعي، وهو ما كان يجب على المحكمة الاستئنافية بحثه، ذلك أن انعدام التسبيب لأي من مكونات الحكم التحكيمي يبطله مباشرةً بموجب قانون دولة المقر، أي قانون التحكيم المصري، وهو ما تواترت على تأييده الآراء الفقهية كافة، إلا أن عدم بحث هذه المسألة لا يترتب عليه تعييب الحكم الاستئنافي إجمالاً، لوصوله للنتيجة الصحيحة ببطلان الحكم التحكيمي.
أما بخصوص سادس مناعي الطاعنة المبداه من قبلها أمام عدالة المحكمة الاستئنافية بخصوص سقوط حق المطعون ضدها بصفتها في إقامة الدعوى التحكيمية بمرور خمس سنوات تطبيقاً لنص المادة 87 من قانون المعاملات المدنية السوداني لسنة 1984 واجب الإعمال على موضوع النزاع التحكيمي، فإن التفات المحكمة الاستئنافية عن هذا الدفع نراه جاء على سند صحيح من القانون، لكون مثل هذا الشرط اشترطه المشرع لقبول الدعوى أمام المحاكم السودانية أو بطبيعة الحال أمام التحكيم الذي يكون مقره بدولة السودان، وبالتالي فلا ينطبق مثل هذا القيد على الدعوى التحكيمية محل الذكر في التعليق الماثل لكون مقر التحكيم في جمهورية مصر العربية وليس بدولة السودان، ما مفاده أن الإجراء التحكيمي يعد مصري الجنسية لا سوداني، ولم يضع القانون المصري مثل هذا القيد المشار إليه، مما يترتب عليه فساد أساس مثل هذا النعي.
أما عن النعي السابع المبدى من الطاعنة أمام عدالة المحكمة الاستئنافية، فالتفتت عنه الأخيرة بحق لكون مثل هذه المسألة غير مطروحة من الأساس لصدور حكم نهائي بات من القضاء السوداني بصحة تصرفات الممثل القانوني للشركة المحتكمة، أي الشركة المطعون ضدها، بما في ذلك صحة عقد اتفاق التنازل والتسوية الذي أبرمته الشركة في شخص ممثلها القانوني المشار إليه بمتن التعليق الماثل، مما لا يستقيم معه التحدي بانعدام الصفة لثبوت صحة هذه الصفة بموجب الحكم النهائي البات محل الذكر، وهو ما كان ذاته محلاً لنعي آخر للطاعنة قضت المحكمة بصحته لمخالفة الحكم التحكيمي للنظام العام بإهداره حجية هذا الحكم القضائي، ومن ثم فلا محل لإعادة النظر في مثل هذا النعي لأكثر من سبب كما سلف بيان ذلك.
أما عن النعي الثامن المبدى من الطاعنة أمام عدالة المحكمة الاستئنافية والمتمثل في إخلال حكم التحكيم بمبدأي المساواة والمواجهة بين طرفي النزاع ومحاباة هيئة التحكيم للشركة المطعون ضدها، فإن التفات المحكمة الاستئنافية لمثل هذا النعي قد جاء على سند قوي وصحيح من القانون، ذلك أنه وبغض النظر عن عدم إيراد المحكمة لثمة إيضاحات بخصوص هذا النعي، إلا أنه أولاً وأخيراً وعلى الفرض الجدلي بصحته، فقد تنازلت عنه الطاعنة ضمناً، بعدم تمسكها بمثل هذا النعي أثناء الإجراءات التحكيمية، مما عد نزولاً منها عن حقها في الاعتراض.
أما عن النعي التاسع الذي التفتت عنه عدالة المحكمة الاستئنافية بعدم جواز التحكيم في العقود الإدارية بموجب قانون التحكيم السوداني، فإن المحكمة الاستئنافية قد امتثلت لصحيح القانون بالتفاتها عن مثل هذا النعي، ذلك أن الطاعنة أوردت قيداً وارداً في قانون التحكيم السوداني غير المنطبق من الأساس على الإجراءات التحكيمية، مما مفاده انتفاء محل إعماله من بابه، حيث إن مقر التحكيم في جمهورية مصر العربية، فينطبق قانون التحكيم المصري دون السوداني على الإجراءات التحكيمية بجانب القانون المختار من الأطراف لغاية الإعمال على هذه الإجراءات، أي قواعد مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي، ولم يستبعد قانون التحكيم المصري اللجوء إلى التحكيم في خصوص العقود الإدارية، بل أجازها بصريح النص بموجب التعديل الوارد على قانون التحكيم المصري بموجب القانون رقم 9/1997، حيث ورد بصريح عبارة الفقرة الثانية المضافة للمادة الأولى من قانون التحكيم المصري على إجازة التحكيم في العقود الإدارية بموافقة الوزير المختص أو من يتولى اختصاصه، ومن ثم كان هذا النعي باطلاً لفساد أساسه، وهو ما نؤيد معه مسلك المحكمة الاستئنافية بالالتفات عنه.
وقد أصابت كذلك المحكمة الاستئنافية صحيح القانون بالتفاتها عن نعي الطاعنة المتمثل في مخالفة الحكم المطعون فيه للنظام العام في مصر بقضائه بتعويض يجاوز أي ضرر يمكن أن يكون قد وقع، ذلك أنه على فرض صحة ذلك النعي، فإن ذلك الأمر يتعلق أولاً وأخيراً بالخطأ العادي في تطبيق القانون، والذي لا تتسع معه بحال دعوى البطلان، فلا تمس هذه المسألة النظام العام من قريب أو من بعيد، الأمر الذي يكون معه قضاء الحكم الاستئنافي في الخصوص سليماً.
أما عن النعي الحادي عشر الذي التفتت عنه المحكمة الاستئنافية، فلم توضح الأخيرة ماهية بطلان الإجراءات على نحو أثر في سلامة الحكم لنتمكن من التعقيب على مثل هذه المسألة، إلا أن عدم تمسك الطاعنة بمثل هذا الأمر أمام الهيئة التحكيمية يعد نزولاً منها عن حقها في الاعتراض على النحو الذي لا يستقيم معه إبداء مثل هذا النعي لأول مرة أمام عدالة المحكمة الاستئنافية.
أما عن النعي الثاني عشر الذي التفتت عنه عدالة المحكمة الاستئنافية، فنؤيد فيه مسلكها، ذلك أن الدفع بعدم توافر شروط الحيدة والاستقلال في هيئة التحكيم لاستبعاد المحكم المعين من قبل المحتكمة – أي المطعون ضدها – لممثل الأخيرة وقصر الخصومة على ولاية الخرطوم والشركة المطعون ضدها مما معناه أن له رأي سابق في الدفع المبدى من الطاعنة بعدم قبول الدعوى لرفعها على غير ذي صفة لم تأت بصدده الطاعنة ظاهرياً – بالنظر إلى الحكم الاستئنافي – على دليل على مثل هذا الأمر، مما عدت معه شروط التمسك بمثل هذا الدفع متخلفة، بتخلف شرط جوهري وهو إثبات وجود دليل ملموس على عدم الحياد أو الاستقلال لهيئة التحكيم، بعدم تمكن الطاعنة من إثبات ذلك وفق البين بمطالعة الحكم الاستئنافي، مضافاً إلى الشرط المتحقق وهو عدم الإفصاح عن هذه العلاقة التي تربط عضو الهيئة محل الذكر بالمحتكمة – أي المطعون ضدها -.
وخلاصة ما تقدم، هو أننا نرى أن الحكم الاستئنافي محل التعليق الماثل قد ورد في مجمله وفق صحيح القانون، منتهياً بحق إلى بطلان الحكم التحكيمي الصادر عن مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي في إطار الدعوى التحكيمية رقم 1340/2019، موازناً في هذا الشأن بين مبدأين هامين تمثلا في عدم التوسع في سلطات الهيئة التحكيمية بالمخالفة للنصوص الصريحة لاتفاق التحكيم وبالنظر إلى مقتضيات فكرة النظام العام غير المنضبطة، حتى لا يكون ذلك باباً لإطراح قضاء الدولة المختص أصلاً بنظر النزاع جانباً وحتى لا يصدر الحكم التحكيمي مخالفاً للنظام العام، وكذا مبدأ عدم إمكان استفاد المخطئ من خطأه أو الملوث من تلوثه، حتى لا يكون ذلك أداة لإبطال الأحكام التحكيمية بسوء نية أي من أطرف النزاع التحكيمي، بأن يغفل عمداً التمسك بأي مخالفة كانت لأي قاعدة مكملة، تمهيداً لإبطال الحكم التحكيمي إذا ما صدر ضد هذا الطرف.